الحجري في البلاط السعدي.. كتاب يكشف مغالطات استشراقية حول "الانغلاق"

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

أطروحاتٌ تتجاوز فرضيات صارت مسلّمات وعقائد بحثية بفعل “الاستشراق”، تتحدّاها أم البنين زهيري، الأستاذة بجامعة كاليفورنيا بسان دييغو الأمريكية، في أحدث كتبها حول أحمد ابن القاسم الحجري، وما يمثله حول العلاقة بين شمال إفريقيا وأوروبا، وهو مؤلّف بالإنجليزية، قدّمت مضامينه، الثلاثاء، في لقاء نظمته أكاديمية المملكة المغربية.

هذا النشاط الذي نظّمه كرسي “الآداب المقارنة” بالأكاديمية، استقبله مقر المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، التابع لأكاديمية المملكة، وسيّره عضوها علي بنمخلوف، وقدّم أطروحة الأكاديمية التي سبق أن اهتمت بالدبلوماسي المغربي حسن الوزان المعروف بـ”ليون الإفريقي”.

تقدم أم البنين زهيري في مؤلفها قصة مثقف موريسكي، في وقت اعتداء الإسبان على الموريسكيين ومنع الإسلام واللغة العربية ثم طردهم جملة في وقت عاشَه، وهو الحجري المتقن للغات، والمتحدث بالعربية، ابن أسرة حافظت على إسلامها سرا، واشتغل دبلوماسيا بالمغرب في عهد السلالة السعدية، وأتاحت له لغاته ومناصبه الترجمة من الإسبانية وإليها، والترجمة إلى العربية من لغات أوروبية أخرى.

هذا الكتاب الذي ذكرت صاحبته أنه من المرتقب أن يصدر باللغة العربية، بعد نشره بالإنجليزية سنة 2023، يسعى إلى فهم الثقافة المغاربية في عصر الحجَري، الذي كان “دبلوماسيا ومترجما ولد بإسبانيا، ولجأ بالمغرب في عهد السعديين، وتوفي بتونس”، وهي دراسة تقدّم ثمارا تسائل صورا مسبقة حول المغرب، وشمال إفريقيا، ومسلّمات حول الحداثة.

الحجري وضع مصيره في المغرب “مع مولاي زيدان، أحد أبناء السلطان أحمد السعدي، وصار كاتبه، ودبلوماسيا”، وبعد قرار تهجير الموريسكيين، وخيانة بحّارة أوروبيين لموريسكيّين كانوا يريدون الإبحار إلى شمال إفريقيا، وسرقتهم، بُعث موضوع الكتاب “على رأس بعثة مغربية إلى فرنسا، لتعويضهم (…) وبعد ذلك إلى هولندا حيث التقى مرات موريس فان ناصو، حاكم هولندا (…) وفي رحلاته كان له مخاطَبون مسيحيون، وبعضهم يهود، ودافع عن الإسلام، بنجاح”.

ورغم نصح علماء له بكتابة سيرة منافحاته الكلامية والعقدية عن الإسلام، إلا أن ذلك لم يتم إلا بعد رحلة الحجري إلى الحج، حيث التقى في طريقه رأس المدرسة المالكية بمصر آنذاك علي الأجهوري، ليقرر كتابة “رحلة الشهاب في لقاء الأحباب” وهو نص مفقود إلى اليوم، تبقى منه مختصَر “ناصر الدين على القوم الكافرين”.

وتحدثت الأكاديمية حول أنواع من اشتغلوا مع المستشرقين من المتحدثين بالعربية آنذاك: “أولا موريسكيون مثل الحجري، أو أسرى الحرب وقد درستُ لمدة حسن الوزان (ابن فاس)، ومسيحيو الشرق مثل الأقباط والموارنة خاصة، ومتعاونون أحرار في إطار علاقات تعاون ثقافية مع العثمانيين والإمبراطورية المغربية والفارسية”.

وأولى الفرضيات الاستشراقية المعمّمة التي انتقدتها أم البنين زهيري، انطلاقا من نموذج الحجري أنه “قبل القرن 19 لم يكن العالم العربي مهما” بالنسبة لأوروبا، بينما الواقع أن الحجري قد تعاون مع مستشرقين مثل إيتيان هوبير الذي كان يريد تعلم العربية لقراءة مصادر بها، من بينها ابن سينا في الطب، كما ساعد جاكوب غيليس على نسخ مخطوطات وتحريرها، وساعد علماء أوروبيين آخرين.

الحجري أيضا ترجم وثائق دبلوماسية للسلطان السعدي، ونصوصا ثقافية من الإسبانية خاصة، وأيضا الفرنسية واللاتينية بمساعدة أوروبيين، حول الفلك والجغرافيا والحرب، منها كتابات بارزة في عصرها، من بينها “أطلس مينور”؛ “قرونا قبل ترجمته إلى التركية، التي اعتبرت لحظة مهمة في العلاقات الإسلامية الأوروبية، مما يعني أن دور ابن القاسم الحجري ومولاي زيدان يستحق اعترافا أكبر”.

الحجري ترجم أيضا مرجع أبراهام زاكوتو الفلكي، مما وسع تأثيره في الإبحار في اللغة العربية، كما ترجم كتابا حول الكرة الأرضية وتصويراتها، وآخر حول المدافع؛ وهذا الأخير “عمل مركب في الترجمة، بفعل عدم وجود سابق مماثل يكون نموذجا له في الموضوع باللغة العربية”.

وتفهم الأكاديمية الحجري ودوره بوصفه مثقفا لم يتبع طريق علماء عصره في طلب العلم: “لقد تأخر في أن يكون كاتبا (…) لم يدرس في المدارس التي تخرجوا منها، ومعرفتُه مبنية على إتقانه للغات، وكان فخورا بصداقاته مع عارفين من أمثال محمد الركراكي، عيسى السكتاني، أحمد بابا من تومبوكتو، وعلي الأجهوري”.

وتابعت: “اهتمامه بالكتابة الأدبية سابق، ونعرف كتابته الشعر بالعربية والإسبانية وهما معا، ولا نعرف الأصل من الترجمة، فله ذهاب وإياب بين لغتين أم (…) لكن معرفته بالعربية لم تكن معمقة، ولم يكن يحترم دائما قواعد العربية، فكانت عربيته وسطى بين الكلاسيكية والعامية”.

رغم ذلك، أو بفعل ذلك “أثارت سيرته اهتماما كبيرا”؛ فهو “كان مثقفا، لكن ليس بدرجة العلماء الكبار الذين كان يفضل عدم الحديث عند نقاشهم، ولو أنه عرف شخصيا علماء كبارا، وحادثهم، ودون ذلك انتسابا لهم ورفعا لقدره (…)”.

إذن ما الخلاصة؟ تقول أم البنين زهيري: “توجد مشتركات (سابقة على القرن التاسع عشر) بين المغارب (الإسلام) وأوروبا، عبر كُتّاب غير بارزين أو صغار في عصرهم مثل الحجري”، وهي علاقة لم تتحقّق مع كُتّاب وعلماء بارزين في عصرهم مثل الحسن اليوسي.

وزادت باتساق مع رأي لِـغاتاري ودولوز: “يوجد دور مهم للكتاب الصغار في ثقافتهم”، ثم قالت: “الحجري لعب دورا في العربية الوسيطة، التي صارت عربية أقلية منفية هي الموريسكيون، وترجم من العربية إلى الإسبانية نصوصا دينية، للأقلية الموريسكية التي بعد (حملات) إسبانيا لم يعد لديها تمكن من العربية، أو لم تعد تعرفها إطلاقا، كما أنها قد صارت غير متمكنة من الإسلام”، ولذا ترجم لها نصوصا من بينها كتابات للسيوطي إلى الإسبانية.

ومن الخلاصات عدم صحة أو عدم دقة سرديات آمنت “باستثناء تاريخي لأوروبا لاختراع العلوم والحداثة”، في حين كانت “البلدان الإسلامية لقرون في سبات”؛ أي رؤية “عصور مظلمة يغيب فيها الابتكار، أمام أوروبا ناهضة”.

هذه الأطروحات رغم وجود نماذج عبر القرون المسمّاة عصورا مظلمة إسلامية في الأكاديمْياَ الاستشراقية، اعتبرها البعض “اهتماما شخصيا لا يعكس ثقافة المحيط”، بينما الحجري، على سبيل المثال لا الحصر، قدم “ممارسات مجتمعية وثقافية تقع في ثقافة وسيطة بين النخبة العالمة والفئات الشعبية، وقدم معلومات حول تحديث المدفعية، التكوين والتنظيم فيها (…) وترجم نصوصا تظهر أنه كان ملاحظ ذكيا لعصره، هو الفاعل في البلاط السعدي”.

وأحالت زهيري، في هذا السياق، على كتاب جماعي صدر منذ سنوات بالإنجليزية يعيد النظر في أطروحة صارت تُرى اليوم غير سليمة تربط السيرة الذاتية وبزوغها ببزوغ الفرد في أوروبا. وفي السياق ذاته أحال المسير علي بنمخلوف على كتاب صادر سنة 2017 بالإنجليزية يعيد النظر في الباراديغم المؤسطَر الشهير “براديغم التخلف”، وتأسف لأن “البعض يستمر في الحديث عن العصر الذهبي”، وما يقابله بالضرورة.

وخلصت أم البنين زهيري في محاضرتها إلى أن الحجري قد “لعب دورا مهما في المؤلفات العلمية التي تربط أوروبا وجيرانها المسلمين (…) في الجغرافيا والفلك والطب والثقافة، ويظهر أن العالم العربي أقل انغلاقا مما تصورناه، في مناطق الاتصال بين أوروبا وبينه (…) وقدم ترجمات هجّنت المعارف بلغة وسيطة”.

ثم قالت إن المهم هو أنه “في الثقافة المغربية آنذاك، كان أناس ذاتيون مهتمين بأوروبا (…) والحجري استفاد بشكل من الأشكال من أنه لم يمر من المدرسة (العلمية)، وأن مهامه كانت في اتصال بأوروبا وسفرائها (…) ولا أقول إنه مقابلٌ مماثل للاستشراق (…) بل إنه وآخرين أشخاصٌ كانوا بصيغ مشابهة للاستشراق مأخوذين بالآخر”.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق