عزيزي الزائر أهلا وسهلا بك في موقع سعودي فايف نقدم لكم اليوم علي السيد يكتب: حياد الصحافة قاتل... - سعودي فايف
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
تموت وسائل الإعلام إن فقدت المصداقية، لكن ما جرى لصحيفة " واشنطن بوست" يقول عكس ذلك. الصحيفة أعلنت الحياد في الانتخابات الأمريكية ففقدت ٢٠٠ ألف من مشتركيها البالغ عددهم مليونين ونصف المليون.
دفعت الصحيفة التي تحتل المرتبة الثالثة، من حيث التوزيع، بعد "نيويورك تايمز" و"وول ستريت جورنال" الثمن بمجرد عدم نشرها لإعلان وليس لمقال يؤيد أحد المرشحين للانتخابات الرئاسية الأمريكية. هل يعني ذلك أن الذين ألغوا اشتراكهم على حق؟ وهل الناس لا تريد صحفاً محايدة؟ هل ترغب كل فئة أو جماعة أو طائفة أن ترى وجهها فقط في مرآة الصحافة؟ هل بات على الصحافة أن تعمل بقواعد جديدة تلبي رغبات من اختاروا الاشتراك فيها؟
الإجابة جاءت على لسان مالك " واشنطن بوست" ومؤسس" أمازون" "جيف بيزوس" الذي سارع بكتابة مقال معتبر ينذر بخطر داهم على وسائل الإعلام وهو تراجع مصداقيتها، وأن هذا التراجع لا يضر وسائل الإعلام وحدها ولكنه يمس الأمة كلها، لأن عدداً من الناس يتجهون إلى المدونات غير الرسمية والمنشورات غير الدقيقة وغيرها من مصادر الأخبار غير الموثقة التي يمكن أن تنشر معلومات مضللة وتعمق الانقسامات.. وضع بيزوس وهو ليس صحفياً يده على أزمة كبيرة تطال أي مجتمع تفقد فيه وسائل إعلامه مصداقيتها، وتأتي في مقدمة المتضررين مؤسسات رسمية لا تستطيع إضفاء الثقة على بياناتها التي قد تكون صادقة تماماً وسط ما تخلقه المدونات غير الشرعية وغير المهنية من بلبلة وشكوك.
ولعل خير مثال على مدى أهمية المصداقية تلك الواقعة التي رواها جابرييل غارسيا ماركيز عن قصة حقيقية جرت أحداثها في فبراير من عام ١٩٥٥ ميلادية. وقتها كان ماركيز يعمل صحفياً في وقت تعاني فيه صحف كولومبيا من قلة التوزيع بسبب أن الصحف تقدم مواد للتسلية ولا جديد يذكر. جاءت واقعة غرق ثمانية بحارة بسبب عاصفة، والعثور على أحدهم بعد ١٠ أيام بمثابة طوق نجاة للصحف من الغرق.. نشرت كل الصحف قصة هذا البحار البطل، وسرعان من انطفأت وهج القصة ومعها الصحف.. ماركيز ذهب بعيداً حين قرر أن يجلس إلى البحار لعله يحصل على زاوية جديدة وقد كان. انقلبت الرواية رأساً على عقب ما جعل القراء يقفون أمام الصحيفة في طوابير طويلة للحصول على نسخة. فبعد عشرين جلسة مع البطل توصل ماركيز إلى الحقيقة التي لا يشك فيها الناس ولا تقبل التكذيب. الحقيقة أنه لم تكن هناك عاصفة، والأرصاد الجوية قالت إن هذا الوقت لا تحدث فيه عواصف وأن السفينة هي مدمرة وتحمل بضائع مهربة لحساب أحد" الكبار"، وأن الحمولة كانت زائدة وحين سقط البحارة لم تستطع المدمرة عمل مناورة لإنقاذهم بسبب الحمولة.. ذهب ماركيز إلى البحارة الذين كانوا على متن المدمرة وحصل منهم على صورهم التذكارية والتي تظهر البضائع المهربة خلفهم وإلى جوارهم، ثم قدم روايته التي لم يستطع أحد تكذيبها، وجعلت صحيفته تصل إلى أرقام خرافية وغير مسبوقة في التوزيع، لكنها كادت أن تفقده حياتها لولا هروبه إلى فرنسا.
المصداقية تخلق ثقة لدى الناس في الوسيلة الإعلامية، وإذا حدث ذلك تعم المنافع على الجميع، فالمسؤول الذي يريد أن تصل كلمته ويسمع صوته يحتاج إلى إعلام ذي مصداقية ومن ثم ذي ثقة، والمواطن يريد أن يثق حتى يُصدق.
وإذا عدنا إلى مالك "واشنطن بوست" سنجد أنه لم يلتفت إلى خسارة صحيفته ٢٠٠ ألف مشترك، رغم أنه رجل أعمال يهمه المكسب والخسارة، لكنه التفت إلى الخسارة الأكثر فداحة وهو "انحدار" الصحفيين ووسائل الإعلام وخسارتهم للسمعة والثقة وفقاً لاستطلاعات الرأي. هذه الاستطلاعات كانت تعطي وسائل الإعلام أفضلية ومصداقية أعلى من الكونجرس.. غير أن استطلاع غاليري لهذا العام هبط بالصحافة والصحفيين إلى مرتبة متدنية. ما جعل بيزوس يرى أن مهنة الصحافة باتت الأقل ثقة على الإطلاق، ونبه الصحفيين إلى العمل بجدية لاستعادة المصداقية، وأن المشكلة لا تخص صحيفته وحدها ولكن بقية الصحف أو وسائل الإعلام أيضاً. المشكلة كبيرة وتحتاج إلى جهد مضاعف لبناء المصداقية والثقة التي لا تصنعها كثرة التكريمات ولا تعدد الجوائز والصور في المهرجانات والمؤتمرات.
0 تعليق