تمثل التطورات المتسارعة في سوريا وسيطرة جبهة تحرير الشام (النصرة سابقا) على مدينة حلب، وأجزاء أخرى من الدولة التي تعاني حربا أهلية منذ نحو 13 عاما، صداعا في رأس المتابعين والمتخصصين في شؤون الأمن القومي والحركات الإرهابية، لما تمثله هذه الأحداث من حشد لهمم الجماعات الإرهابية وتشجيعها على تكدير الأمن في الأوطان العربية.
واتفق محللون وخبراء تحدثوا لـ"الدستور" على خطورة هذه التحركات الإرهابية المدعومة من قوى إقليمية ودولية صاحبة نفوذ ومصالح داخل سوريا، على الأمن القومي العربي، خصوصا أن المنطقة لا تحتمل صراعات جديدة في ظل العدوان الإسرائيلي على غزة والذي دخل عامه الثاني، فضلا عن تأثر حركة الملاحة البحرية في البحر الأحمر، وتداعياتها على سلاسل الإمداد العالمية، ولبنان الذي يحاول لملمة جراحه بعد العدوان الإسرائيلي الغاشم.
انتكاسة كبيرة
وقال المحلل السياسي السوري عمار وقاف، إن الجيش السوري شهد انتكاسة كبيرة خلال الفترة الماضية، حيث حدثت انسحابات غير مفهومة في العديد من المناطق، ما أثار تساؤلات عديدة بين السوريين حول أسباب تلك الانسحابات.
وأضاف وقاف لـ"الدستور"، أن هذه الانسحابات تزامنت مع دخول قوات هيئة تحرير الشام، (جبهة النصرة سابقا)، إلى مدينة حلب والمناطق المحيطة بها، الأمر الذي يثير تساؤلات حول أسباب سهولة هذه العملية، على الرغم من القدرات العسكرية التي يتمتع بها الجيش السوري.
وأشار وقاف إلى أن هذه التطورات لم تكن مفهومة في البداية، لكن مع مرور الوقت بدأنا نشهد تحولات إيجابية على الأرض. ففي الأيام التالية للانسحابات، بدأ الجيش السوري في إعادة تنظيم صفوفه وتحديد خطوط دفاعية جديدة، كما أظهرت الدولة السورية تماسكًا أكبر.
وتابع المحلل السياسي السوري بقوله: الرئيس بشار الأسد بدأ في التواصل مع الدول العربية، وجامعة الدول العربية أصدرت بيانًا داعمًا لموقف سوريا ضد الإرهاب، ما يعكس بداية تعافي الدولة السورية بعد تلك النكسة غير المفسرة.
ترتيب خطوط الدفاع
واستعرض وقاف تطورات الوضع العسكري، مشيرًا إلى أن الجيش السوري تمكن في الأيام الأخيرة، منذ 30 نوفمبر، من إعادة ترتيب خطوط دفاعه بشكل أفضل، وبدأ في استعادة بعض الأراضي في شمال محافظة حماة.
وقال إن الدولة السورية تسير نحو استعادة ما فقدته من أراضٍ، خصوصًا مع انتشار قوات مسلحة ما تعرف بـ"هيئة تحرير الشام" على مساحات واسعة من دون القدرة على الاحتفاظ بها. واعتبر وقاف أن الأمر قد يتطور بشكل أسرع مما هو متوقع، وقد يواجه الجيش السوري مقاومة محدودة من هذه المجموعات المسلحة، ما سيؤدي إلى صعوبة في استعادة هذه الأراضي في بعض المناطق.
وبالنسبة لقدرة الجيش السوري على استعادة السيطرة الكاملة على المناطق التي خسرها، أكد وقاف أن ذلك يعتمد على عدة عوامل، أبرزها استمرارية كفاءة الجيش السوري واستعادة الدولة السورية لعافيتها.
وإذا استمر الجيش السوري في العمل بكفاءة، فمن المتوقع أن يتمكن من استعادة السيطرة على الأمور.
وأوضح أن أحد التحديات الكبيرة التي تواجه الجيش السوري هو كيف يمكن استعادة الأراضي التي احتلتها هذه المجموعات المسلحة من دون إلحاق أضرار كبيرة بالمواطنين أو البنية التحتية في تلك المناطق.
وأضاف أن هذه القضية قد تتعلق بالمفاوضات التي تجري بين روسيا وتركيا وإيران، التي قد تساهم في إيجاد حلول سياسية لتجنب التصعيد العسكري، خصوصًا مع التأثير التركي على هذه المجموعات المسلحة.
وبالنسبة للتأثيرات الإقليمية لما يحدث في سوريا، أوضح وقاف أن التطورات الأخيرة تنذر بتداعيات خطيرة على استقرار المنطقة.
وأشار إلى أن الدول العربية، مثل مصر والأردن والإمارات والسعودية، كانت قد اجتمعت منذ أربع سنوات من أجل دعم سوريا والحفاظ على وجهها العربي.
ورغم أن الدعم العربي كان يشمل الحفاظ على سوريا كدولة ذات سيادة عربية، إلا أن الوضع الحالي يشير إلى تمدد تركي في سوريا، ما يزيد من تعقيد الأمور. فتركيا، بحسب وقاف، تواصل دعم الجماعات المسلحة، التي تعمل تحت مظلتها، وتتحجج بوجود قواتها لحماية المسلحين في بعض النقاط، الأمر الذي يعقد مهمة الجيش السوري في هذه المناطق.
وأكد أن سوريا لا يمكنها أن تخوض معارك على عدة جبهات، خاصة مع الجيش التركي الذي يمتد على طول 700 كيلومتر من الحدود السورية.
وأضاف وقاف أن هذا التمدد التركي يهدد بتغيير معالم الوضع السياسي في سوريا، حيث يمكن أن تصبح هذه الجماعات المسلحة، التي تتمتع بدعم تركي، جزءًا من المشهد السياسي السوري في المستقبل. موضحا أن غالبية السوريين لا يرغبون في أن تصبح دولتهم تحت تأثير دول أخرى تتحكم في قراراتها الداخلية والخارجية، مثلما هو الحال مع النفوذ التركي في بعض المناطق.
مستقبل المنطقة
وفيما يتعلق بمستقبل المنطقة العربية، قال وقاف إن نجاح المجموعات المسلحة التابعة لتنظيم القاعدة في سوريا قد يفتح الباب أمام مجموعات مشابهة في دول أخرى في المنطقة، وهو ما يشكل تهديدًا خطيرًا للاستقرار الإقليمي.
وأوضح أن هؤلاء المسلحين يعتقدون أن انتصارهم في سوريا سيؤدي إلى "فتح" مناطق جديدة في المنطقة، وأن هذا الفهم الخاطئ قد يؤدي إلى تصعيد في أماكن أخرى.
وأكد وقاف أن دعم الدولة السورية في مواجهة هذه الجماعات المسلحة هو في مصلحة جميع الدول العربية، بما في ذلك مصر والسعودية والإمارات، وكذلك في مصلحة استقرار المنطقة. مؤكدا أن استعادة سوريا لسيادتها على أراضيها يعد أمرًا حيويًا لتحقيق الاستقرار الإقليمي، حيث تعيش المنطقة في حالة استنزاف مستمر منذ عدة سنوات، جراء النزاعات المتواصلة في فلسطين وغزة وجنوب لبنان.
وخلص وقاف إلى أن المنطقة بأسرها على حافة انفجار، وأن استمرار الصراعات لن يكون في مصلحة أي طرف. وبدلًا من ذلك، يجب أن تسعى العقول الهادئة إلى إيجاد حلول سلمية للأزمة السورية، بما يعزز استقرار المنطقة ويعود بالفائدة على الجميع، وليس فقط السوريين، بل أيضًا الدول العربية والعالم بأسره.
تداعيات خطيرة
وفي تصريحات أدلى بها أستاذ العلوم السياسية الكويتي عايد المناع، أكد أن التطورات الأخيرة في سوريا تحمل تداعيات خطيرة على الوضع الداخلي في البلاد، بينما تظل آثارها على المنطقة العربية بشكل عام أقل وضوحًا.
وأوضح المناع لـ"الدستور"، أن الأوضاع الحالية قد تؤدي إلى عودة البلاد إلى دوامة الحرب الأهلية، مع احتمال تدخلات دولية متعددة، حيث يسعى كل من الروس والإيرانيين من جانب، والأمريكيين والإسرائيليين والأتراك من جانب آخر، للنفاذ إلى الساحة السورية تحت ذرائع متعددة. واعتبر أن سوريا هي الخاسر الأكبر في هذا الصراع، حيث أن وحدة البلاد وتماسكها مهددان بشكل كبير.
وأشار المناع إلى أن الحل الوحيد للأزمة كان من المفترض أن يكون عبر اتفاق بين الحكومة السورية والمعارضة وفقًا للقرار الأممي 2254، الذي يهدف إلى إجراء انتخابات حرة وإنهاء الصراعات المتجددة التي مزجت بين الأبعاد القانونية والطائفية. ولكن مع استمرار العنف والصراع، أصبح الوضع أكثر تعقيدًا، مما يهدد مستقبل سوريا السياسي والاجتماعي.
تداعيات الصراع السوري
وفيما يخص الدول العربية، أكد المناع أن لبنان والعراق هما الأكثر تأثرًا بالتطورات في سوريا. فلبنان، كونه جار مباشر، يعاني من تبعات الأزمة السورية بشكل مضاعف، خاصة مع تورط حزب الله في الصراع السوري ودعمه لسوريا الرسمية، ما يجعل البلاد أكثر عرضة للمخاطر. أما العراق، فبسبب القرب الجغرافي والروابط مع الدولة السورية، فهو يعاني أيضًا من تداعيات هذا الصراع. وفي ظل النفوذ الإيراني، تصبح المنطقة أكثر عرضة للاستنزاف في صراعات طائفية قد تؤثر على استقرار العراق.
موقف الدول العربية
وعن المواقف العربية من الأوضاع الحالية، شدد المناع على أن دولتي مصر والإمارات اتخذتا موقفًا واضحًا ضد الهجمات التي شنّتها جماعة "هيئة تحرير الشام" المسلحة (المعروفة سابقًا بجبهة النصرة) وبعض المجموعات الجهادية الأخرى.
وأكد أن هذه المجموعات هي من إفرازات تنظيم القاعدة والحركات السلفية، وأي سيطرة لهذه الجماعات على أراض جديدة قد يؤدي إلى صراعات داخلية على السلطة بين مختلف الفصائل المسلحة، وهو ما يعمق الفوضى ويهدد استقرار المنطقة بشكل أكبر.
موعد مع الإرهاب
وفي سؤال حول إمكانية صعود الجماعات الإرهابية من جديد في المنطقة، أشار المناع إلى أن الظروف تغيرت بشكل كبير منذ ظهور تنظيم "داعش" وسيطرته على مناطق واسعة في سوريا والعراق.
وأوضح أن المجتمع الدولي قد نجح إلى حد بعيد في تدمير "داعش" والقضاء على دولته المزعومة في المنطقة، ولكن الخطر يبقى قائمًا إذا حاولت "هيئة تحرير الشام" تكرار الأخطاء ذاتها.
وأكد أنه في حال عادت هذه الجماعات إلى اتخاذ نفس المسار المتطرف، فإنها ستواجه مصيرًا مشابهًا لما لاقاه تنظيم "داعش"، حيث سيعمل التحالف الدولي على تدميرها.
وأشار المناع إلى أن الوضع السوري قد يشهد المزيد من الفوضى والاقتتال بين الأطراف المختلفة، بما في ذلك تركيا وإيران وروسيا، وقد تكون بعض الدول العربية أيضًا جزءًا من هذا الصراع. وهذا الوضع قد يمتد إلى العراق، خاصة في المناطق الغربية حيث التفاعل الجغرافي والمذهبي يفاقم من تعقيدات المشهد.
دور حزب الله
وفيما يخص حزب الله اللبناني، ذكر المناع أن الحزب، رغم حالته الضعيفة حاليًا، سيضطر إلى التدخل مجددًا في سوريا لدعم الجماعات التي تنتمي إليه. وقال إن الحزب سيكون له دور ملحوظ في المناطق التي يسيطر عليها الحكومة السورية، ما سيزيد من تعقيد الوضع في المنطقة. وبالتالي، فإننا أمام صراع طويل ومعقد يشمل العديد من الأطراف المحلية والإقليمية، وكل طرف يسعى لتحقيق مصالحه الخاصة على حساب استقرار سوريا والمنطقة.
في الختام، اعتبر المناع أن سوريا ستظل هي الخاسر الأكبر من هذا الصراع، حيث كل القوى الإقليمية والدولية تسعى لتحقيق مصالحها في أرضها. ورغم المحاولات المستمرة لإيجاد حل سياسي، فإن الصراع يبدو أنه سيستمر لفترة طويلة، ما يهدد ليس فقط سوريا، بل استقرار المنطقة العربية ككل.
سياق إقليمي ودولي
ويرى الباحث في شؤون الحركات الإسلامية أحمد سلطان أن الأحداث الميدانية الأخيرة في سوريا لا يمكن فصلها عن السياق الإقليمي والدولي المعقد.
وأكد سلطان أن هناك رغبة تركية واضحة في توسيع نفوذها في المنطقة، خاصة من خلال دعم الفصائل المسلحة الجيش الوطني السوري وهيئة تحرير الشام. لافتا إلى أن هذا التوجه التركي جاء بعد فشل محاولة التطبيع مع النظام السوري، نتيجة الخلافات حول تعريف الإرهاب وحدود النفوذ التركي المتوقع في حال تطبيع العلاقات.
وقال سلطان لـ"الدستور"، إن الوضع في سوريا ليس منفصلًا عن التوازنات الإقليمية والدولية، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى احتواء النفوذ الإيراني في المنطقة، ما يزيد من تعقيد المشهد السوري. ومن هذا المنطلق، تتخذ هيئة تحرير الشام، التي هي في الأصل حركة جهادية محلية، دورًا محوريًا في المعركة الحالية، بعد أن غيرت استراتيجيتها من "الجهادية العالمية" التي كانت تتبناها جماعة جبهة النصرة سابقًا، إلى تركيزها على الساحة السورية بشكل رئيسي.
وتابع بقوله: في هذا السياق، يُظهر المقاتلون الأجانب في صفوف الهيئة توجهًا محليًا، حيث يقاتلون من أجل أهداف محددة في سوريا، دون طموحات لتوسيع الجهاد إلى دول أخرى في الوقت الحالي.
وفيما يتعلق بتأثير هذه الأحداث على الدول العربية، أكد سلطان أن صعود هيئة تحرير الشام مرة أخرى يمكن أن يكون له تبعات على الحركات الإسلامية في المنطقة.
وأوضح أن هذا الصعود يمنح زخمًا لحركات إسلامية أخرى، مثل جماعة الإخوان المسلمين ومجموعات سلفية، أبدت احتفاءً بتقدم الهيئة الميداني. ورغم أن الهيئة تتبنى نهجًا محليًا في الجهاد، إلا أنها قدمت في السابق دعمًا لمجموعات جهادية في مناطق عربية أخرى، بما في ذلك في سيناء، وهو ما تم اكتشافه من خلال مراسلات بين قيادة الهيئة وتنظيم "داعش"، الذي كان قد أسس جبهة النصرة قبل حدوث الخلافات بين التنظيمين.
وبناءً على هذه التطورات، أشار سلطان إلى أن بعض الجماعات قد تتلقى دعمًا ماديًا ومعنويًا من هيئة تحرير الشام، وهو ما يثير القلق لدى دول المحيط العربي، خاصة دول محور الاعتدال.
وأكد أن هذه الدول ترى أن صعود الجماعات المسلحة بشكل عام يشكل تهديدًا للأمن الإقليمي والقومي العربي. ومن هذا المنطلق، تسعى بعض الدول العربية إلى دعم النظام السوري في مواجهته لهذه الجماعات، حيث تُبذل جهود لتشكيل جبهة إقليمية لدعم دمشق. لكن، يبقى الموقف السوري في التعامل مع هذه المبادرات أمرًا حاسمًا.
وفيما يتعلق بمستقبل المنطقة، أشار سلطان إلى أن معضلة الإسلام السياسي والحركات الإسلامية لا تزال قائمة.
سيناريو عودة داعش
وقال سلطان إن الأسباب السياسية والاقتصادية التي ساهمت في صعود هذه الحركات لا تزال موجودة، ما يعني أن المنطقة قد تشهد صعودًا جديدًا للتيارات الراديكالية في السنوات المقبلة.
وأضاف أن هذه التيارات قد تتراوح بين الراديكالية التي تتبنى العنف، وبين تيارات أخرى تعتمد على العمل السياسي، ولكنها تبقى ضمن إطار الإسلام السياسي. موضحا أن هذا التطور يتماشى مع الاستراتيجيات التي صاغتها الولايات المتحدة والدول الغربية لمواجهة التطورات في المنطقة.
أما بالنسبة لتنظيم "داعش"، فأكد سلطان أن التنظيم لا يزال مستمرًا في عملياته العسكرية على الأرض. وقال إن "داعش" لا يزال يهاجم الجيش السوري في منطقة البادية، وكذلك الأكراد في شمال وشرق سوريا.
وأوضح أن التنظيم لم يغير أهدافه ويواصل قتال جميع خصومه، بما في ذلك هيئة تحرير الشام والجيش السوري، فضلًا عن الهجمات المستمرة على الأكراد. وأكد سلطان أن انشغال خصوم "داعش" في القتال ضد بعضهم البعض قد يعزز موقف التنظيم ويمنحه فرصة أكبر للاستفادة من هذه الفوضى.
0 تعليق