كان الروائى المعروف «ميلان كونديرا»: يقول إن «الثقافة هى ذاكرة الشعب، وتفريغ أمة من ثقافتها، أى من ذاكرتها وأصالتها، يعنى الحكم عليها بالموت»، ومن هنا تأتى الأهمية المزدوجة أولًا: لإدراك أبعاد ومخاطر حملات تشويه، واستلاب فضل التاريخ المصرى العظيم، وريادته الأخلاقية والحضارية، ونسبتها إلى أطراف أخرى، كما يدَّعى الطرف اليهودى الصهيونى، وأنصار الصهيونية المسيحية، وغيرهما، وثانيًا: الجهود الفكرية المتميزة، والمتواترة، العاملة على مجابهة هذا المنحى الخطر، والساعية إلى تنبيه الغافلين إلى مغبة عدم التصدى لكل محاولات تشويه التاريخ الوطنى، أو وهذا هو الأخطر اغتصابه وسرقة أفضاله وانتحال منجزاته الأخلاقية العليا، على نحو ما تسعى الدوائر المعادية بإصرار منهجى لا يكل ولا يمل.
فالمنطقة تخوض، ومصر فى قلبها، معركة وجود ومصير على كل الجبهات، غير أن أهم وأخطر هذه المعارك، هى تلك التى تدور على جبهة الوعى والإدراك، لأنها مفتاح الذود عن الكيان الحضارى للأمة، وحماية تاريخها التليد من الضياع والتبديد، وإنقاذه من المؤامرات التى لم تنقطع، ومن استباحة إسهامه الحضارى وتراثه العبقرى وتعريضه للنهب والتزوير، وبالذات عن طريق الغارات المستمرة من مدَّعى العلم الكاذب والمعرفة الزائفة، الذين استهدفوا، وما زالوا، تزوير تاريخ العطاء الإنسانى المصرى الفذ، وانتحاله لصالح شراذم محدودة الوجود والتأثير فى المسار الإنسانى برمته، هذا التاريخ الذى يدين لشعب مصر وعبقريته بسبق شق الطريق للحضارة الإنسانية، وهو ما شرحه، وأثبته، ودافع عنه شخصيات حيّة الوجدان، ومنهم «جيمس هنرى بريستد»، عالم الآثار الكبير، فى كتابه العمدة «فجر الضمير»، بقوله إن علينا أن «ندرك الأهمية العظمى للحقيقة التاريخية الثابتة، وهى أن الإنسان قد سما إلى تصور خُلقى عالٍ قبل أن تظهر الأمة العبرية فى عالم الوجود بألفى سنة»، وذلك بفضل رقى المصريين وتحضرهم، فقد امتلك المصريون: «مقياسًا خُلقيًا أسمى بكثير من (الوصايا العشر)، وهذا المقياس ظهر قبل أن تُكتب الوصايا العشر بألف سنة».
ورغم هذه الشهادات الجازمة وغيرها، وأهم منها الواقع المتمثل فى آلاف الشواهد الحية المنتصبة تتحدى الكاذبين، وتبهر الناظرين، وتلجم المتقولين، على أرض مصر، وفوق وديانها، وتحت رمالها، وأمام نُصب أهراماتها ومعابدها، وفى صالات متاحفها ومتاحف العالم كله.. فإن لصوص الأرض والحضارات لا يتوقفون عن الادعاءات الكاذبة، ومنها ما ذكره «شمعون بيريز»، رئيس الوزراء ورئيس الكيان الصهيونى الأسبق، فى كتابه «الشرق الأوسط الجديد»: «لقد ابتنى آباؤنا المعابد والأهرامات والقلاع، وشقوا القنوات، فأورثونا بذلك مواقع سياحية مذهلة»! وهو الأمر الذى نَظَّرَ له مدعون كثر، ومنهم على سبيل المثال «بازيل استيورات» الذى كتب فى كتابه «سر الهرم الأكبر» يزعم أنه ليس هناك ما يبرر إطلاقًا القول بأن المصريين هم الذين بنوا الهرم لمجرد وجوده على أرض مصر! وينسب الفضل فى تشييد هذا الأثر المعجز، ونشر بذور العظمة الحضارية فى أرض الوادى، إلى مجموعة من المستوطنين «هم بالطبع العبرانيون القدامى»، قَدَمَتْ إلى مصر من آسيا، وحقّقت هذه الإنجازات المبهرة، استنادًا إلى مخزونها الراقى من المعارف العلمية والرياضية! بل ويتطرّف البعض فيُرجع الفضل فى هذه الإنجازات العبقرية إلى كائنات فضائية هابطة من خارج الكوكب الأرضى، استهانة بقدرة شعب مصر على صناعة حضارته العظيمة بجهده وإبداعه.
غير أن هذا الخطر، والتهديد العميق لمكونات الهوية المصرية التاريخية الثابتة، لم يمر مرور الكرام، بل تصدى له نفر من المثقفين والعلماء الكبار، مصريين وأجانب، تمتعوا بقدر محترم من المعرفة والنزاهة والموضوعية، ففندوا حججه، وكشفوا عوراته، وردوا على الادعاءات الكاذبة والملفقة، التى اخترعت تاريخها الملفق الخاص، ومنحته صدارة لا يستحقها، ونسبت إليه ما لم يجد على أرض الواقع دليلًا يؤكد تاريخيته وواقعيته، ومن ضمن هذه الجهود الوطنية المخلصة، كتاب مهم يستحق إلقاء نظرة متفحصة على محتوياته، بذل فيه مؤلفه جهدًا مشكورًا للرد على المزاعم التى تنسب الفضل فى المنجزات العظمى لحضارتنا التليدة إلى العبرانيين وجهدهم، إن لم نقل «عبقريتهم» المصطنعة!
وهذا الكتاب بالغ الأهمية، والمعنون بـ«تهويد التاريخ: إعادة ترتيب القوائم الزمنية للتاريخ القديم» صيغ بقلم الأستاذ «رضا الطويل»، وربما لا يعرف البعض، حتى من المهتمين بالشأن الثقافى والعام، مَن هو صاحب هذا الاسم، فهو زاهد من زهاد الثقافة والعطاء المعرفى فى مصر، ومثقف من الطراز الرفيع، عازف عن الظهور فى وسائل الإعلام، ونافر من الاستعراض الفكرى فى المحافل والاستديوهات، شاعر مبدع، وكاتب مجيد، وأديب متميز، وناقد أدبى وباحث تاريخى، صدر له أربعة عشر إصدارًا تضمنت دراسات نقدية، وقصصًا، ومجموعات شعرية، لكن مركز اهتمامه الرئيسى انصب على ما اعتبره مهمة وطنية لها أولوية الصدارة فى أبحاثه وكتاباته، وهى حماية الهوية الوطنية والتاريخ الحضارى المصرى من المحاولات المستميتة للعبث بهما، والسطو على عطائها ومنجزانها، وفى هذا السياق أضاف إلى المكتبة العربية عددًا من الكتابات الثمينة، منها: «عصور ليست فى فوضى»، «حور آختى وأديبوس»، «إيبو العجوز»، إضافة إلى «تهويد التاريخ»، الذى سنعرض لمحتوياته فى المقالات المقبلة.
يستعرض المؤلف فى متن هذا الكتاب، وبين سطور أقسامه الثلاثة: «حدود وطبيعة المعرفة التاريخية فى الزمن القديم»، و«مصداقية الرواية التوراتية منذ عصر النهضة»، و«إيمانويل فليكوفسكى وإعادة ترتيب القوائم الزمنية للتاريخ القديم» قضايا على جانب بالغ من الأهمية، تمس مراحل كتابة التاريخ الحقيقى لمصر، والدور الكبير الذى قام به الكاهن المصرى «مانيتون» فى الحفاظ على السردية الوطنية، والرد، بدافع الشعور الوطنى، على أغاليط «سفر الخروج» التوراتية التى روج لها اليهود، ويشرح بدقة مراحل كتابة تاريخ مصر وسجل حكامها منذ فجر التاريخ، كما يدحض المزاعم اليهودية حول تاريخ مصر وتاريخهم، ودورهم الوهمى فى بناء حضارة مصر والمصريين، ويدحض أكاذيب «فيلكوفسكى» المنحازة «انحيازًا مطلقًا، وغير موضوعى»، يستهدف «منح العبرانيين أولوية تاريخية متوهمة»، بهدف «نفى تأثير الحضارة المصرية القديمة فى مجملها على المحتوى الدينى والنص التوراتى»، «ولإثبات فضل السبق التاريخى لبنى إسرائيل على حضارات الشرق القديم، وعلى الأخص الحضارة المصرية».
قعقعة القذائف الصهيونية المتفجرة، والتى تحصد الآلاف فى غزة وبيروت، تواكبها الهجمات الضارية على تاريخ شعوبنا وأوطاننا هنا وهناك. وعلى مستوى الوعى والمعرفة، والمقاومة النبيلة لمشروع الهيمنة ومسخ التاريخ الوطنى المصرى، تجرى معركة المواجهة للعدو بأسلحة عديدة، لعل من أهمها الكتابة الواعية لإيقاظ العقل والضمير، وهو دور مثل هذا الكتاب الذى سنتابع قراءته فى المقالات المقبلة.
0 تعليق