عزيزي الزائر أهلا وسهلا بك في موقع سعودي فايف نقدم لكم اليوم عمرو منير دهب يكتب: المتنبي وكسر الجدار الرابع - سعودي فايف
كما في المسرح، عمد المتنبي في شعره إلى كسر الجدار الرابع مع جمهوره، فهو لم يقف إزاء ذلك الجمهور كما لو كان يعامل متلقّياً غائباً أو مجهولاً وإنما احتكّ بجماهيره في قصائده ولم يتحاشَ مواجهتها بخطاب مباشر أو شبه مباشر في كل قصائده تقريباً. بل إن شاعرنا تعدّى ذلك إلى حيث بدا كمن يورّط قرّاءه في خطابه الشعري ويستفزّهم لاتّخاذ المواقف عوضاً عن البقاء محايدين إزاء ما يطرحه من قضاياه الشائكة. والمفارقة أنه على الرغم من أن تلك القضايا كانت شخصية صرفة في الغالب، وعلى الرغ٩م من أن شاعرنا بلغ فيها من العنصرية والأنانية وأذى الآخرين - بل وهجاء المتلقين هجاءً مباشراً كما رأينا في أكثر من مقام سابق – فإن قرّاءه قد استجابوا لاستفزازه ذاك بموافقته إلى حدّ الإذعان والتوحّد التام مع قضاياه الشخصية تلك حتى وهو يقدح في أصولهم العرقية أو القومية؛ وبالانتباه إلى ما أشرنا إليه من استعلاء الشاعر على البشر أجمعين وعلى كل ما خلق الله، فإن أحداً من المتلقّين لم ينجُ بحال من سياط تعاليه اللاذعة.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: ألْهَموني
لكن علاقة المتنبي بجمهوره تتجاوز على الأرجح علاقة ممثل المسرح الذي يكسر جداره الرابع إلى حيث تبدو أقرب إلى علاقة محترفي الاتحاد العالمي للمصارعة (ترفيه المصارعة العالمية) بالجماهير، فقد ابتدعت تلك المصارعة مصطلح "كيفيب/كايفيب" Kayfabe الذي وجد طريقه إلى أشهر قواميس اللغة الإنجليزية: أكسفورد وكامبريدج وميريام-وبستر وغيرها؛ والمصطلح يشير إلى تقديم أبطال المصارعة الاحترافية عروضهم على الحلبة كما لو كانت حقيقية وتلقائية في حين أن سيناريوهات تلك العروض معدّة مسبقاً.
الأهم في لعبة "كيفيب/كايفيب" أن الجماهير متواطئة فيها من خلال توقيعها على اتفاق ضمني بقبول تلك التمثيليات على أنها حقيقة. ومن أجل إكمال اللعبة، فإن المصارعين يخرجون إلى الحياة العامة ويقابلون معجبيهم في أي مكان بشخصياتهم التي نُمِّطوا عليها في الحلبة، الأمر الذي لا يحدث مع ممثلي المسرح الذين يكسرون الحاجز الرابع أو غيرهم من ممثلي السينما والتلفزيون، فأولئك يقابلون جماهيرهم في الحياة العامة بشخصياتهم الحقيقية وليس بأيٍّ من أدوارهم التي أدّوها فأعجبت الناس.
المتنبي إذن أقرب إلى مصارع محترف يؤدّي دوره على خلفية "كيفيب/كايفيب" من حيث أنه يورّط جماهيره في اتفاق ضمني فيقابلهم خارج قصائده بشخصيته المرسومة داخل تلك القصائد؛ مع ملاحظة أن شاعرنا هو من يرسم لنفسه شخصيّته التي يريد أن يؤدّيها على الحلبة/القصيدة كل مرّة، إمّا مادحاً راضياً كل الرضا وإمّا هاجياً ساخطاً كلّ السخط، وهو نفسه يتوحّد مع الدور الذي يؤدّيه كل مرّة واثقاً من أن جماهيره ستصفّق لحسن أدائه وسترافقه بزهو وسعادة بعد أن ينتهي من أداء دوره إلى خارج القصيدة، إمّا في رحلة إلى قصيدة أخرى وإمّا في صحبة مسيرته/سيرته الذاتية بما يرتضيه/يرتديه من الرضا أو السخط على أيٍّ من الناس (وفيهم معجبوه أنفسهم) أو على الزمان مجملاً.
حطّم المتنبّي كل تابوات/محرّمات الخطاب الشعري العربي التقليدي، ذلك الخطاب الذي كان تقريباً بمثابة المرجعية الرئيسة لأدب الحديث عن القِيَم والذات بالنسبة للعرب وأبرزَ بنود عقدهم الاجتماعي. وكما أشرنا، فإن ما حطّمه المتنبي لم يكن فحسب المسافة التي تفصل المتلقي عن المبدع بكسر الجدار الرابع الوهمي وإنما حطّم كذلك احترامَ خصوصية القارئ واحترام آرائه ومشاعره، بل احترامَه هو ذاته جملةً واحدة من خلال إصرار الشاعر ليس على رفع نفسه فوق كل ما خلق الله بل تحديداً باحتقار كل ما خلق الله وما لم يخلق بحيث لا تتجاوز كل تلك الكائنات شعرة في مفرق رأسه ينتفها حين يشاء أو تسقط من تلقاء نفسها فلا يحرّك من أجلها ساكناً.
كان المتنبي يتحرّش بقارئه بمناسبة وبدون مناسبة، بل بدون مناسبة على وجه العموم، فالقارئ بطبيعة الحال لا يقحم نفسه في عالم الشاعر؛ ولكن شاعرنا كان يتكلّف فكرة استفزاز القارئ عادةً وهو في معرض مناوشة مع أمير لم يكافئه أو شاعر تطاول عليه دون أن يكون القارئ قد انحاز إلى الأمير المتباخل أو الشاعر المتطاول. ومن اللفتات البارعة على صعيد تشريح استفزاز المتنبي قارئه وتحرّشه به ما ذكره لي شاعر صديق قبل نحو ثلاثة عقود حول ما قرأه للناقد صلاح فضل الذي ذهب في لمحة بارعة ضمن مقال له حينها في مجلة ثقافية عربية إلى أن تاء "تعرفني" في البيت الشهير (الخَيْـلُ وَاللّيْـلُ وَالبَيْـداءُ تَعرِفُنـي ** وَالسّيفُ وَالرّمحُ والقرْطاسُ وَالقَلَـمُ) وإنْ كانت تعود على "الخيل" و"الليل" و"البيداء" وما بعدها من خلال القراءة المباشرة للنصّ فهي تمنح الإحساس بأنها كما لو كانت تلفح القارئ بغتةً وهو يقرأ البيت، كأنما يريد الشاعر أن يقول لقارئه: أنت أيضاً تعرفني مهما تكن منزلتك من الناس وموقعك من عالم الأدب بل ومن الدنيا بأسرها؛ والقارئ على كل حال لم ينكر المتنبي لكن شاعرنا في هذا المقام وغيره يتّبع على ما يبدو مع قرّائه – لا أعدائه فحسب – سياسة الهجوم الاستباقي، ليس بغرض الدفاع عن النفس وإنما من أجل إخضاع نفوس الآخرين من الأعداء والحلفاء على حدّ سواء.
هجا المتنبي بعد أن مدح، بل أفحش في الهجاء بعد أن أفاض في المدح، ولو أنه فعل العكس لما اكتسبت تناقضاته إزاء مواضيعه الشعرية تلك الحفاوة في الاستقبال وذلك الزخم في التداول. وإذا كنّا قد فُطمنا في أدبيّاتنا على تبجيل النهايات السعيدة فإن الفطرة البشرية تبدو مجبولة على العكس: الابتهاج بالعروض المثيرة لدراما العداوة الضارية بعد الوئام الطويل. ربما كانت تلك هي النهايات السعيدة التي نُؤْثرها بالفطرة.
ليس ثمة أبلغ دلالةً في مقام الحديث عن سحر شاعرنا على معجبيه وقرّائه بصفة عامة من قصة مقتله، فهي غاية في الخزي بالنظر إلى فحش القصيدة التي كانت بحسب القصة سبب القتل، ومع ذلك فإن جماهيره تتداول القصة كأنها بطولة من طراز رفيع لا ميتة عار وخيم.
استفزّ المتنبي قرّاءه فورّطهم وتحرّش بهم، لكن جماهير الشعر العربي فيما يبدو قد غفرت له ذلك التوريط/الاستفزاز/التحرّش لأنه أطلق ما لا تستطيع الإفصاح عنه في حناياها - من الأفكار والمشاعر والنعرات - كما لم يفعل أحد قبله ولا بعده على ذلك النحو من الجمال الفنّي الفتّان.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])
0 تعليق