شهدت مواقع التواصل الاجتماعي في المغرب في السنوات الأخيرة تزايدا ملحوظا في عدد من يسمون أنفسهم “المؤثرين”، الذين يستخدمون منصات وتطبيقات مختلفة للوصول إلى الجمهور، وهو ما أفرز بعض السلوكات من قبلهم، تنم عن جهلهم بالقوانين المؤطرة لحرية الرأي والتعبير، كالتحريض على العنف وعلى التمييز والكراهية والتشهير والمس بالحياة الخاصة للأفراد، وهو ما دفع بالعديد من الأشخاص والهيئات المدنية إلى رفع شكاوى أمام القضاء في مواجهتهم.
وتبعا لذلك تمت إدانة عدد من المعنيين وتوقيع عقوبات حبسية ضدهم، على رأسهم المسمى “إلياس المالكي”، الذي أدين بما مجموعه سبعة أشهر حبسا نافذا، في قضيتين منفصلتين، الأولى تتعلق بالإخلال بالحياء العام والثانية تتعلق بـ”التحريض على التمييز والكراهية بين الأشخاص عن طريق الوسائل الإلكترونية، والتمييز بين الأشخاص الطبيعيين بسبب الجنس، وبث وتوزيع ادعاءات بقصد المس بالحياة الخاصة للأشخاص والتشهير بهم، والسب والقذف ضد المرأة”؛ إضافة إلى الملقب بـ”ولد الشينوية”، الذي يتابع هو الآخر بتهم عديدة منها السب والقذف والمس بالحياة الخاصة للغير عبر نشر ادعاءات بواسطة الأنظمة المعلوماتية بغرض التشهير.
وتثير هذه المتابعات سؤال مدى نجاعتها في مواجهة هذه الظواهر الرقمية الهدامة وحماية المجتمع ومنظومته القيمية والأخلاقية، كما تثير إشكالية تحقيق التوازن بين ضمان حرية التعبير المكفولة بموجب الوثيقة الدستورية، من جهة، وبين حماية القيم المجتمعية، من جهة أخرى.
محتويات واجتهادات
قال الحسين البكار السباعي، محام وحقوقي، إن “دراسة تحليلية حديثة أكدت أن سنة 2024 شهدت هيمنة واسعة لتطبيقات الوسائط الاجتماعية، على رأسها منصة ‘تيك توك’، باعتبارها من التطبيقات الأكثر نجاحًا، فضلًا عن إتاحتها فرصة مشاهدة وتحميل الملايين من الفيديوهات القصيرة والقيام بنشر محتويات متنوعة بشكل مباشر وفوري، ما جعل ظاهرة ‘المؤثرين’ تتوسع بشكل كبير، وهو ما انعكس ذلك على الحياة اليومية للعديد من الأشخاص؛ فـ’المؤثرون’ أو ‘اليوتيوبرز’ أصبحوا فئة اجتماعية تمتلك القدرة على التأثير والتغيير في آراء وسلوكات الآخرين عبر مختلف منصات التواصل الاجتماعي”.
وأضاف السباعي متحدثًا لهسبريس أن “المحتويات التي ينتجها ويتداولها ‘المؤثرون’ ليست كلها إيجابية وهادفة، لذلك فإن العديد من هؤلاء خطيرون على مجتمعاتهم، وذلك لامتلاكهم القدرة على التأثير في آراء وسلوك الآخرين بشكل هدام، عبر العديد من المحتويات التي نصادفها يوميًا أثناء تصفح حساباتنا على وسائل التواصل الاجتماعي؛ ما يطرح سؤالًا حول إمكانية إعمال المراقبة القبلية للعديد من المحتويات الماسة بالأخلاق العامة والأخرى الحاطة من الكرامة الإنسانية أو التي تدعو إلى الانحلال الخلقي وإفساد النشء وإعطاء القدوة السيئة، وكلها أفعال معاقب عليها في القانون الجنائي المغربي، وإن أباحتها بعض القوانين المقارنة التي لا تعتبرها من النظام العام”.
وتابع المحامي ذاته: “هنا نتساءل كذلك عن دور النيابة العامة التي أسند لها المشرع حماية المجتمع من بعض المحتويات الماسة بالأخلاق والحياء العام، من قبيل جنحة إفساد النشء وإعطاء القدوة السيئة، وكلها تدخل في إطار الجرائم الأخلاقية أو الماسة بالآداب العامة التي أفرد لها المشرع الجنائي المغربي عقوبات. غير أنه في الكثير من الحالات لا يتدخل القضاء إلا بناءً على شكاية من الطرف المتضرر، سواء كان شخصًا عاديًا أو جمعية أو مؤسسة أصابها الضرر من محتوى معين وأثبتت صحته في شكاية أو ادعاء مباشر أمام القضاء الزجري. ليبقى السؤال الأساسي: لماذا لا تتحرك النيابة العامة من تلقاء نفسها بالأمر بالبحث والمتابعة دون انتظار تقديم شكاية من شخص متضرر؟”.
وسجل المتحدث ذاته أن “المشرع المغربي وإن أفرد مواد خاصة في القانون الجنائي للعقاب على بعض المحتويات الماسة بالأخلاق والآداب العامة، وكذلك الخاصة بجرائم التشهير والسب والشتم والمساس بالحياة الخاصة، إلا أنه من الصعوبة إيجاد تشريع خاص يشكل تأطيرًا قانونيًا يحكم الإنترنت ويقيد من حرية استخداماته، ويعزز تشريعًا خاصًا يضفي شرعية الدولة على مراقبة مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، وممارسة الضغط على المواطنين عبر رقابة محتوى مراسلاتهم، رغم وجود نماذج من احتكار الدولة للبنية التحتية لهذه الشبكات وسيطرتها على هذه المواقع ومراقبتها، مثلما هو الحال في الصين وتايوان اللتين خصصتا جهازًا إداريًا من أجل مراقبة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي”.
كما أورد الحقوقي عينه أن “المغرب صادق على العديد من الاتفاقيات المتعلقة بحقوق الإنسان، ما يلزمه استنادًا إلى مرجعية القانون الدولي بإدماج ‘الشرعة الدولية لحقوق الإنسان’ في السياسة العامة ذات الصلة، ومنها الحق في حرية الرأي والتعبير، إذ ينص الدستور على حرية الفكر والرأي والتعبير بكل أشكالها والحق في التعبير ونشر الأخبار والأفكار والآراء”، وزاد مستدركا: “غير أنه مع الاستعمال المفرط لتكنولوجيا الإنترنت واتساع مجال استخدام مختلف تطبيقات التواصل الاجتماعي، وظهور فئات عريضة من ‘المؤثرين’ الذين خرجوا عن قواعد التأثير الإيجابي، بنشر محتويات هدامة وسلبية، لها انعكاسات خطيرة على سلوكيت أفراد المجتمع، ومنها محتويات تفننت في أساليب الشتم والسب والقذف والتشهير والمساس بالحياة الخاصة للأفراد، أصبح يثار سؤال حدود حرية الرأي والتعبير من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ومدى نجاعة قواعد القانون الجنائي للتصدي لانحرافات محتوياتها”.
واعتبر السباعي أن “التعاطي مع هذا الملف يبرز الحاجة إلى اجتهاد وجهد قانوني وحتى قضائي، ولو كنا أمام قواعد زجرية، لكي لا نواجه بعدم احترام بعض المبادئ المرتبطة بالتداول الحر للمعلومات والقواعد المنظمة له، فضلًا عن ضرورة احترام القضايا الجوهرية والعميقة ذات الصلة بحقوق الإنسان، وعلى الخصوص حرية الرأي والتعبير”.
ضغوط وآليات
قال عبد الإله الخضري، رئيس المركز المغربي لحقوق الإنسان، إن “الحديث عن هؤلاء ‘اليوتيوبرز’ يدفعنا إلى استحضار نقطتين هامتين؛ الأولى تكمن في كون هؤلاء ‘المؤثرين’ السلبيين يفتقدون إلى مقومات مخاطبة الجمهور؛ فالشخص الذي لا يملك مستوى كاف من الوعي والثقافة والمعرفة التي تؤهله لتقييم حجم المسؤولية في مخاطبة الجمهور يصبح عرضة لزلات لسان عابرة قد لا يولي لها هو نفسه أي اعتبار، فيعرض نفسه للمساءلة، من خلال إثارة قضية في حقه أمام النيابة العامة، ليبدأ مشوارًا من جحيم الضغط النفسي والمعاناة الاجتماعية بسبب كلمة طائشة لم يعر لخطورتها أي اعتبار”.
وأضاف الخضري، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “هؤلاء ‘المؤثرين’ تتملكهم جرأة كبيرة لمخاطبة الناس على الهواء بكل حماسة وتهور، والكثير منهم يعانون من اضطرابات نفسية هائلة غير مكشوفة، فيطلقون الكلام على عواهنه، ويعبرون عن جهلهم وميوعة أخلاقهم، وللأسف فقواعد اشتغال مواقع التواصل الاجتماعي تحقق لهم عوائد كثيرة بسبب اعتمادها على عدد المشاهدات، في ظل غياب رقابة على نوعية الخطاب، خلافًا لما يحدث في دول منشأ تلك التطبيقات، كما هو الشأن بالنسبة للصين بخصوص تطبيق ‘تيك توك'”.
أما النقطة الثانية، يوضح الفاعل الحقوقي ذاته، فتتمثل في أن “مواقع التواصل الاجتماعي وإن ساهمت في دمقرطة المعرفة الرقمية وتعزيز التواصل بين الأفراد والمجتمعات، وإشاعة حق الحصول على المعلومة، إلا أنها منحت حق الكلام لفيالق من المعطوبين أخلاقيًا واجتماعيًا ليتحدثوا أمام الجمهور، بعد أن كانوا مستترين في محيطهم الاجتماعي الضيق”، مشيرًا إلى أن “اقتحام مواقع التواصل الاجتماعي من قبل ‘المؤثرين السلبيين’ أو صناع التفاهة لم يعد مجرد آثار جانبية لهذه المواقع، بل أصبح في صلبها وأحد ركائز قوتها ونفوذها؛ فأفعال وخطابات هؤلاء تؤكد أننا أمام أزمة أخلاقية عميقة وانهيار فعلي لمنظومة القيم”.
وتابع المتحدث نفسه بأن “النموذج السوسيو-اقتصادي المتبع ببلادنا أدى بشريحة عريضة من المواطنين إلى السقوط في أتون الفقر والفاقة والحرمان والتشرد، فجاءت مواقع التواصل الاجتماعي كطوق نجاة لتقديم فرصة لهؤلاء لجني أموال طائلة، لكنها كشفت الغطاء عن أزمة قيم عميقة”.
ورجوعًا إلى المتابعات القضائية في حق بعض من يسمون “المؤثرين” قال الخضري إن “هذه المتابعات يمكن بالفعل أن تساهم في الحد من العشوائية التي تعرفها مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها غير كافية وحدها لضمان حماية فعلية من آثار محتواهم المتسبب في الميوعة وتخريب قيم الشباب والأطفال”، مردفا: “إذا كانت هذه المتابعات تشجع على تفعيل الوعي القانوني لدى المستخدمين حول الحدود المسموح بها فإنها في الوقت ذاته قد تؤدي إلى مزيد من القيود على الحرية الفردية؛ لذا يجب أن تواكب هذه المتابعات بآليات تعليمية وتوعوية بشأن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مسؤول”.
وأوضح الحقوقي ذاته أن “المقاربة الزجرية على المدى القريب قد تكون فعالة إلى حد ما في الحد من بعض التجاوزات القانونية، لكنها ليست كافية وحدها على المدى الطويل، إذ يصبح المجتمع المغربي بحاجة إلى تعزيز الرقابة الذاتية والمسؤولية الفردية والجماعية على الإنترنت، مع توفير سبل للرقابة والردع ضد الأقوال والسلوكات الضارة؛ ذلك أن سن قوانين صارمة دون توازن مع ثقافة المسؤولية الرقمية فرديًا وجماعيًا قد يؤدي إلى تأثيرات سلبية على حرية التعبير”.
وخلص رئيس المركز المغربي لحقوق الإنسان إلى أن “حرية التعبير حق مكفول بموجب العديد من الاتفاقيات الدولية، لكنه ليس مطلقًا، إذ قد يتعارض مع حقوق الآخرين، كما أنه يجد حدوده عند مساسه بحق الآخر؛ فيما من غير المعقول التساهل مع الأعمال التي تنتهك الحياة الخاصة للأفراد أو التي تتضمن تشهيرًا أو تحريضًا على العنف أو الكراهية”.
0 تعليق