ليس المراد من هذا المقال أن أخوض في متاهات التفسيرات اللغوية والاصطلاحية لمفهوم السياسة، حتى لا أكون متطفلاً على هذا المجال الذي هو من صلاحيات المختصين والمهتمين به مباشرة في المعاهد العليا والجامعات.
لكنني سوف أقتصر على تناول هذا الموضوع من جانبه المبسط العملي والواقعي، وبالتحديد في مجتمعنا المغربي. وسأحاول تحليل بعض الجوانب للأوضاع السياسية والاجتماعية، على الأقل انطلاقاً من الواقع المعاش في الوقت الراهن، وذلك لكوني شخصياً فاعلاً ومتتبعاً عن قرب وباستمرار للمشهد السياسي المغربي، واستئناساً بتجربتي الطويلة والمتواضعة في الميدان منذ ما يناهز نصف قرن من الزمن، بدون انقطاع ولا هوادة، تقلدت خلالها مناصب ومسؤوليات متواضعة، لكنها مفيدة، سواء على المستوى الحزبي، حيث بدأت مسيرتي كمجرد مناضل وتوجتها كعضو بالمكتب السياسي لأحد الأحزاب الوطنية، أو على مستوى ممارسة الشأن المحلي منذ بداية التجربة الديمقراطية سنة 1976 إلى سنة 2021، توليت خلالها رئاسة جماعة قروية لثلاث ولايات وعضوية مجلس إقليمي لثلاث ولايات كذلك. هذا، بالإضافة إلى العديد من التجارب في مختلف الجمعيات المدنية وفي مساري المهني الطويل.
لقد سبق لي أن قلت في قناتي على “اليوتيوب” إن السياسة علم وفن وأخلاق ورصيد من الثقافة العامة وموهبة. وبدون هذه المؤهلات الضرورية، لن يتأتى لكل من هبّ ودبّ أن يغامر بالانخراط في عالم السياسة، واهماً أنه سيمارسها بنجاح وباستمرار إن لم يكن مناضلاً صادقاً ومؤمناً قوياً بأن السياسة وسيلة يسعى من ورائها كل وطني غيور إلى المساهمة في تحقيق الغرض الذي وجدت من أجله، ألا وهو خدمة الصالح العام عن طواعية وبدون مقابل، وعدم استعمالها كمجال لاقتناص فرص لكسب الجاه المفقود والمال المشبوه.
فهل هذه الشروط الأساسية، ولو في حدها الأدنى، تتوفر في كل السياسيين الحاليين، وخاصة المنتخبين منهم، إن على المستوى المحلي أو الوطني؟ وهل الظروف المثالية للانخراط في الشأن السياسي المغربي سانحة ومشجعة لممارسته حالياً؟ فما هو التشخيص لواقع الأمور وتحديداً منذ 1976 إلى 2024؟ وأي آفاق للمستقبل؟
إذا اقتصرنا على الفترة الممتدة ما بين 1976 و2024، وتتبعنا بإمعان المراحل المختلفة التي مرت بها التجربة الديمقراطية في المغرب، فسنلاحظ أن الشأن السياسي ببلادنا عرف تطوراً ملموساً، تارة بإيجابياته وتارة أخرى بسلبياته، حيث تم إدخال العديد من الإصلاحات والتعديلات الهامة تدريجياً على مختلف القوانين بصفة عامة، وعلى تلك التي لها علاقة بالمؤسسات المنتخبة بصفة خاصة.
كان ظهير 30 شتنبر 1976 بمثابة ثورة حقيقية ومنعطف تاريخي في مجال تدبير الشأن المحلي، حيث أصبح من أهدافه الأولى تحقيق وترسيخ ديمقراطية القرب وتوسيع حقل اختصاصات الجماعات المحلية، وذلك من أجل تقديم خدمات متميزة للمواطن وتنشيط التنمية المحلية.
بلغ عدد الجماعات 859 سنة 1984، منها 99 جماعة حضرية و760 جماعة قروية؛ ليرتفع هذا العدد سنة 2009 إلى 1503 جماعة، منها 221 حضرية و1282 قروية. كما ارتفع عدد الأقاليم والعمالات من 34 سنة 1976 إلى 75 سنة 2015. ووصل عدد الجهات بالمملكة حالياً إلى 12 جهة.
فلا شك أن هذه الزيادة في عدد الجماعات والعمالات كانت ولا زالت حملاً ثقيلاً على كاهل الدولة وتكلفة باهظة على ميزانيتها.
قد يكون هذا نوعاً من الاستثمار المنتج من حيث الاستقرار السياسي والاجتماعي، لكنه مكلف بالنظر إلى ضخامة الدعم المالي الذي يتم ضخه في المؤسسات المعنية وعلى رأسه مداخيل الضريبة على القيمة المضافة، والتي غالباً ما يتم الإفراط في إنفاقها عبثاً من طرف جل الآمرين بالصرف، رغم المجهودات والإجراءات التي تقوم بها الجهات المعنية كوزارة الداخلية ووزارة المالية والمجلس الأعلى للحسابات.
لا شك أن نية المشرع أصلاً في خلق الجماعات المحلية كانت أن تكون الجماعة نواة وأداة للكدّ والاجتهاد والابتكار من أجل توفير موارد متنوعة تضمن لها مداخيل مالية ذاتية لتحقيق التنمية المطلوبة، عوض أن تتكل دائماً على دعم الدولة.
لكن يبدو أن الجماعة المحلية أصبحت كالبقرة الحلوب تجلب إليها كل متعطش لكسب المال الحرام بدون عناء.
لم يعد خافياً على أحد ما وصلت إليه كثير من المؤسسات المنتخبة من مظاهر الفساد والعبث على جميع المستويات، حتى أصبح أمراً عادياً أن نسمع أخباراً شبه يومية بوقوع فضيحة هنا وهناك في جميع أرجاء المملكة؛ وهذه الحالة ما هي إلا نتيجة الفساد الانتخابي الذي يطغى فيه استعمال المال الحرام بشراء أصوات الناخبين في واضحة النهار، إلى درجة أن كثيراً من الفاسدين يسبقون موعد الانتخابات بأعوام أو بشهور باستغلالهم بعض المناسبات التي تجتمع فيها جماهير غفيرة من المواطنين، فينثرون أمامهم أموالاً بعشرات الأوراق النقدية في الهواء للتباهي بما يسمى بالعامية المغربية: “الغرامة” على الراقصات، وذلك بنية مبيتة لإغواء المتفرجين بأنهم أثرياء وأسخياء حتى يتم استدراج الناخبين وجلبهم بسهولة يوم التصويت في الانتخابات.
هذه الظاهرة الغريبة المتخلفة التي أصبحنا نراها أو نسمع عنها في بلادنا تعتبر قمة الانحطاط والتبخيس للعمل السياسي، واستفزازاً وتحقيراً للمواطن المغربي.
وهكذا، فإن مثل هذه النماذج الفاسدة هي التي تتولى في أغلب الأحيان تسيير الشأن العام في كثير من الجماعات، في مخالفة صارخة لمبدأ: الرجل المناسب في المكان المناسب؛ مما جعل المواطنين الشرفاء يفقدون الثقة في السياسة والسياسيين، ويعبرون عن ذلك بالعزوف عن التصويت في الانتخابات.
وهذا يدل على أن هناك خللاً ما على مستوى معين، حيث لم يستطع أصحاب القرار إلى حد الآن التصدي لهذه المعضلة أو بالأحرى إيجاد حل جذري للقضاء عليها، إما لأنهم غير مؤهلين لاحتواء مثل هذه الظواهر بالحكمة والحنكة اللازمتين، أو لأنهم غير مستعدين لمواجهتها بكل شجاعة وحزم وثبات، أو فقط ليست لهم إرادة حقيقية حالياً في التغيير للأفضل، وذلك ربما لأسباب خفية نجهلها قد تكون موضوعية ومبررة بالنسبة إليهم، والله أعلم…
في كل الأحوال، لم يعد مقبولاً أن يستمر الوضع على ما هو عليه وإلا ستكون عواقبه وخيمة، لا قدر الله، على المشهد السياسي برمته.
إن النقاش العمومي اليوم حول الفساد السياسي والانتخابي على وجه الخصوص أصبح مباحاً وعادياً، لا يخجل أحد بالحديث عنه جهراً وعلانية، وخاصة منذ أن سمع المغاربة قائد البلاد جلالة الملك نصره الله يعبر صراحة عن امتعاضه الشديد لما آل إليه سوء تدبير الشأن السياسي بالمملكة وانعكاساته السلبية في جميع الميادين، مشدداً حفظه الله على تخليق الحياة العامة بالبلاد ومحاربة الفساد بكل أشكاله في كل المجالات، حفاظاً على قيمنا الثابتة وعلى مقومات وسمعة الأمة المغربية.
وبالفعل، أصبح الفساد شائعاً ومتفشياً بشكل خطير يكاد يكون وباءً ينخر جسم جميع مكونات المجتمع، حيث صارت جل الطبقات الاجتماعية تصاب بمرض الجشع والاغتناء السريع بدون مجهود على حساب الكرامة والأخلاق والمبادئ الراسخة التي عرف بها المغاربة الأحرار، حتى أن كثيراً من الناس أصبحوا يؤمنون بالمقولة الشعبية:
“اللي ما عندو فلوس كلامو مسوس”.
كان هذا مجرد ناقوس إنذار، خاصة لما نسمع بأن الفساد يكلف خزينة الدولة 50 مليار درهم في السنة؛ فوجب التذكير بأن للمال تأثيراً خطيراً على الفعل السياسي والتنبيه من استفحال هذا الوباء الملعون وانتشاره كالورم الخبيث على مستوى جميع الشرائح الاجتماعية بالبيع والشراء في الذمم، مما ينذر بنزول السياسة إلى سوق الجملة بالمزاد العلني.
إن الرجل السياسي مثله كمثل الطبيب، فليس المهم أن يشخص الطبيب المرض فحسب أو حتى أسباب المرض عند مريضه، ولكن الأهم بالنسبة للطبيب المحنك الناجح في مهنته هو أن يكون بارعاً في معرفة الوسائل الناجعة والكفيلة بعلاج المرض. وكذلك الشأن بالنسبة للرجل السياسي لما يقف عند بعض الأوضاع المزرية داخل المجتمع الذي يمارس فيه مهنة السياسة، فلا يجب أن يكتفي بتشخيصها وفضحها دون البحث والاجتهاد لتقديم بديل في وصفة تضم لائحة من الحلول لعلاج المشاكل المطروحة.
صحيح أن موضوع الفساد السياسي موضوع شائك ومعقد، ولكن هذا لا يمنعنا أن نحاول على الأقل المساهمة بأفكارنا وآرائنا في النقاش العمومي الذي يتناوله اليوم جمهور واسع من المغاربة بجميع مستوياتهم، فندلي بدلونا معهم عسانا نجد منفذاً للخروج من النفق المظلم الذي نوجد فيه جميعاً. وهذا ليس مستحيلاً لأن لكل داء دواء، ولكل مشكل حل إذا توفرت الإرادة الحقيقية والعزيمة القوية بتظافر الجهود، طبقا لقوله تعالى: “فإذا عزمت فتوكل على الله”.
نعتقد بأن الإرادة موجودة وثابتة في أعلى مستويات القرار. وهذا هو المهم في نظرنا. ويبقى على عاتق الأجهزة المعنية من حكومة وبرلمان وسلطات قضائية وأمنية وأحزاب سياسية أن تقوم بواجبها في تنفيذ وتنزيل أوامر قائد البلاد وإلا فإن بعض هذه الأجهزة لا تستحق تحمل المسؤولية الملقاة على عاتقها.
وحتى نكون عمليين، لابد من القيام بتقديم بدائل تصب في صلب الموضوع بالكشف عن خطتنا المقترحة لمحاربة الفساد والمفسدين، وذلك بالاعتماد على المحاور الأساسية التالية كآليات لمحاربة الفساد:
المحور الأول: التشريع
يعد القانون آلية أساسية في تأطير العمل السياسي، علما بأن بلادنا تملك ترسانة قانونية وفيرة إلى حد “التخمة” لا تُطبق كلها تطبيقا سليماً. وحتى التي يتم تطبيقها لا ترقى إلى المستوى المطلوب، نظراً لكون المواد القانونية في معظمها تكون فضفاضة وغير دقيقة تصنع أحياناً على مقاس من يستفيد منها، حتى يمكن تأويلها بسهولة عند الحاجة حسب الظروف والحالات.
هذا لا يساعد على تطبيق القانون بكيفية شفافة ونزيهة. لذلك، أصبح من الواجب إعادة النظر في العديد من المواد القانونية وصياغتها بدقة متناهية وملزمة بشكل واضح حتى لا تترك المجال لأي تأويل خاطئ.
من الواجب كذلك سن قوانين جديدة رادعة للمفسدين تماشياً مع المظاهر الجديدة للفساد والتعامل معها بصرامة حقيقية، طبقا للمقولة الشعبية:
“اقطع دبرة تبرا”.
المحور الثاني: تعديل استعجالي لمدونة الانتخابات
لقد تبين من خلال ممارسة الشأن العام ببلادنا، سواء على مستوى الجماعات المحلية أو على مستوى البرلمان، أن المدونة الحالية للانتخابات لم تعد صالحة بالقدر اللازم لتفادي الاختلالات التي تشوب العمليات الانتخابية وتأثيرها السلبي أثناء ممارسة المنتخبين للشأن المحلي والبرلماني، الموسومَيْن بالرداءة خطاباً وأداءً.
وهذه حقيقة لم تعد تخفى على أحد، حيث يشاهدها الجميع مباشرة عبر الوسائل السمعية البصرية أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك ناتج عن سوء اختيار رجال ونساء أكفاء ونزهاء لممارسة الشأن العام.
لقد حان الوقت لاستعمال جميع الوسائل المتاحة السياسية والقانونية، وصياغتها ضمن مدونة جديدة للانتخابات مع تطبيقها بكل حزم وصرامة، إذا أردنا فعلاً إيقاف نزيف الفساد الانتخابي ومخلفاته، حفاظاً على سمعة البلاد واستقرارها.
فبالإضافة إلى تلك الشروط العادية التي تنص عليها مدونة الانتخابات الحالية، لابد من إضافة شروط عملية أخرى، وفي مقدمتها:
التجريم صراحة لاستعمال الرشاوي والمال المشبوه في العمليات الانتخابية وفق آلية قانونية مضبوطة.
التنصيص على الإعمال بالتمثيلية الديمقراطية الواقعية، التي على أساسها يجب أن يحصل المرشح في الانتخابات المحلية على النصف زائد واحد على الأقل من المسجلين في اللوائح الانتخابية، لإضفاء المصداقية على العملية الديمقراطية، مما يفرض اللجوء إلى الدور الثاني في حالة عدم حصول أي مرشح على هذه النسبة.
تحديد مستوى دراسي مقبول للترشح للانتخابات المحلية وعلى مستوى البكالوريا على الأقل بالنسبة لرئاسة جماعة أو لولوج البرلمان.
اشتراط توفر المرشح للانتخابات المحلية على دخل متوسط على الأقل حتى لا يطمع في الاستفادة المادية من الجماعة.
المحور الثالث: تعديل ومأسسة قانون الأحزاب
إن قانون الأحزاب المعمول به حالياً أصبح متجاوزاً وغير ذي جدوى بالنظر إلى ما نلاحظه من عدم التزام وانضباط معظم المنتخبين محلياً ووطنياً بمبادئ وتوجهات أحزابهم. وهذا يضر بقوة الأحزاب وسمعتها لكونها لم تعد قادرة على ضبط مناضليها، مما يدل على أن المؤسسات الحزبية أصبحت ضعيفة وغير مؤهلة للقيام بدورها في تربية الأجيال وتأطيرها.
ولذلك حان الوقت لصياغة قانون جديد للأحزاب السياسية ملزم للجميع، يلائم الظروف والتغيرات التي يعرفها المشهد السياسي.
المحور الرابع: إعادة النظر في امتيازات المنتخبين المحليين
إن التعويضات عن المهام إجراء عادي ومعقول، خاصة لما يقوم المنتخبون ذوو الحقوق بواجبهم التمثيلي الحقيقي على الوجه المطلوب. لكن هذه التعويضات يجب أن لا تتجاوز مبالغها حدوداً غير منطقية. لما يتقاضى رئيس الجماعة راتباً يفوق أربعة آلاف درهم شهرياً، ونوابه يستفيدون بتعويض قدره ألفي درهم بالإضافة إلى التعويضات المجاورة من مصاريف التنقل وغيرها، فهذا قد يعني أن الجماعة أصبحت بمثابة مكتب التوظيف (bureau de placement)، علماً بأن مهمة المنتخب أصلاً تطوعية ومجانية؛ ناهيك عن الاستعمال المفرط لسيارات الجماعة في المصالح الشخصية وما تتطلبه من مصاريف باهظة.
كانت هذه بعض المقترحات المتواضعة، قدرنا أنها ضرورية ومستعجلة، حاولنا أن نقدمها بكل براءة وإخلاص للوطن، أملاً منا أنها ستؤخذ بعين الاعتبار، على أن نأتي بمقترحات أخرى في مقال قادم تهم بعض النواقص في القانون التنظيمي للجماعات المحلية.
“إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت. وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.”
0 تعليق